قبل أيّامٍ طرح علينا مديرنا العزيز، الأستاذ: عبد العزيز بن علي الصبي، فكرةً لاقت في نفسي قبولاً، وفي صدري انشراحاً، وكانت الفكرة تتمحور حولَ: ماذا لو كتب كلّ معلّم قصة نجاحٍ تعليمي، يرى فيها إنجازه، ويقيّم فيها نفسه ذاتياً.
وبالطبع .. لم تكن هذه أولى الأفكار الملهمة من أستاذنا المُلهم؛ فمن أوّلِ لقاءٍ جماهيريّ به، كان يبعث لنا رسائل الإلهام والتغيير، ومن ذلك: في التعريفِ عن نفسه ومراحل عمله، قال: … بعد الاستقالة من هذهِ الإدارة التعليمية؛ سيستقيلُ من أعمالهِ كلها، ويكون متفرغاً للتأليف”!
وهذا التخطيط المستقبليّ أساسُ النجاح، وبوصلة الوصول إلى الأحلام.
وأيضاً .. أتذكرُ أنه قال لنا: سأسألك أيّها المُعلم حينما أقابلك عن هدفك، عن ماهيّة طموحك، وأرجو أن تكون جاهزاً لهذا السؤال، وكان هذا بالنسبة لي إلهاماً في توجيه أفكاري نحو أهدافي الحقيقيّة من وراء التدريس والتعليم، وبدأت أستظهرُ فكرتي ورؤيتي في التعليم أمام عيناي.
أعودُ إلى قصّة النجاح التعليمي لي في هذه السّنة، متذكراً بعض المواقفِ والشوارد؛ علّها تكون دافعاً لي على بذل المزيد من الجهد، ومحفزاً لغيري على العملِ في تغذية عقول أجيالِ هذه الأمّة المباركة.
حين فكّرتُ أول ما فكرت في العنوان، وجدتني أنساقُ إلى ذكرياتي مع فصل التحفيظ (5/ أ )، هذا الفصل الذي وجدت أول أيامي معهم في بداية العام الدراسيّ صعوبةً وإرهاقاً؛ نظيرَ اختلاف طريقة تدريسي عن معلم السنة التي قبلها؛ إذ كنتُ صارماً في ضبط المحفوظ وإتقانه، محاولة مني لسلوك الجادة، ومن ثمّ الإتيانُ بالرقائقِ، والحلويات، والترفيه. عددٌ لا بأس به من الطلابِ أسرّ إليّ بصعوبة التكيّف مع الوضع الحالي، وكنت أعلم في قرارة نفسي أنّ هذه سحابة صيف وستنقشع، لم يدم الحالُ طويلاً كما توقّعت.. في نهاية العام، كنت المعلم الأول لهؤلاء الطلاب، كل واحدٍ منهم يبادلني ابتسامة وتحيّة الصّباح. كانوا يطلبونني بالاسم في حصصِ فراغهم، كانوا يصرخون استياء من انتهاء وقتِ الحصّة كي لا أخرج من عندهم، كانوا أكثر من طلاب، كانوا أبناء أفتخرُ بتدريسهم وتعليمهم والاستفادة منهم.
الطالب/ خالد، كان مجتهداً طوال العام، ونائباً لعريف الفصل، يحفظ المقطع بامتياز، ويعتني بكلام المعلّم، يعتذرُ حين يخطئ، سريع الدمعَة، مشرق البسمَة، يُناقشني ويُحادثني، حتى انتهى العام .. ذكرتُ له مسابقةً قرآنيّة في الحي الذي أسكنُ فيه، جاء مع أبيه وسجّل، دخل الاختبار واجتاز بامتياز، في يوم الحفل قرأ خالدٌ أمام جمهور الحفل الغفير، فخورٌ بالتلميذ النبيل خالد.
الطالب/ عبد الإله، يعاني بعض المتاعب والآلام، يراجع المستشفى، ويتلقّى عناية فائقة من أمه الرءوم، بداية العامِ كان حفظه غير متقن، مشاعرهُ ليست طيّبة، وفي آخر شهرين من العام كان يأخذ كل يوم (ممتاز)، تغير (180 درجة) يقرأ القرآن من تلقاء نفسَه، ويبتسم كل حينٍ، فخورٌ بالعمل الذي صنعته مع عبد الإله البطل، الذي يتغلبُ على متاعب جسده بعظيم همّته.
الطالب/ البراء، طالبٌ لطيف، صاحبُ نكتة حاضرة، وظرافة بريئة، يحفظ بصعوبة أحياناُ، ويتقدم على المنهج حفظاً أحايين أخرى، ثم بدأ يستقيم حفظه ويستوي إتقانه حتى انتهى العام .. في يوم اجتماع الآباء أسرّ لي والده: البراء لا يكادُ ينام دون حفظ مقرّره، وأنه من تلقاء نفسِه يطلب تلقينه وإقراءه دون أن نأمره نحن، ولربّما قام في منتصف الليل يُراجع محفوظه للصباح .. أخبرني يا أستاذ محمد: ماذا صنعت مع الابن كي يفعل كل هذا؟ فخورٌ بالبراء أيّما فخر.
هذه ثلاث قصص عابراتٍ، كتبتها بمدادِ الإلهام والأثر، وضعفها في سطور القلبِ منسوج. كنتُ سعيداً بطلابي، فخور بعملهم واجتهادهم، وفخورٌ بتعاطيهم معي قواعد التعلّم والحياة، كنا نتعلم للعلمِ والمتعةِ، والحياةِ والتجربة، كنا نلحظ تطوّر العقل ونشوءه، كنا نبني ذواتنا يوماً بعد يوم.